هكذا دون أن أفعل لهم شيئاً، ودون أن أوذي أيّاً منهم. طردوني، وكنت واقفاً بينهم مثل جدار آيلٍ للسقوط. وقفت أنظر إلى الحفلة التي ضجّت بالمهنّئين: بعضهم يرقص، وبعضهم يغنّي، وأنا كما أنا، أتراوح بين الظلّ والنور، أعبث ببعض الحجارة بين قدميّ، ببقايا قطعة خبز في فمي.
مللت الوقوف جانباً، فحاولت الخروج عن صمتي. نظرت نحو هاوية الموت، حيث شبان المخيم كلّه، يرقصون حتى الثمالة، حتى الموت، ورقصت، كمن أدركه الجنون أخيراً. رقصت حتى شعرت بالجفاف. بكيت وأنا أرقص. تطايرت دموعي مطراً.
فجأة، جاءني واحد منهم، طويل القامة، ذو أنف مدبب. أمسك بتلابيبي وألقى بي مثل ورقة بالية في مستنقع للقمامة. ومثل حاوية كبيرة، أحتضن المكان. حاذيت جدران المخيم المتصدّعة. هربت من عينيه، ووقفت أنظر مرة أخرى إليهم، يتمايلون كأغصان تتراقص طرباً بمقدم الربيع. وقفت جانباً وأنا ألوك نفسي غيبةً، أهتف في نفسي:
– لماذا أنا؟!
أصمت، مثل جبال لم تبرح أماكنها.
– لماذا أنا؟!
أقسم أني آخر العقلاء في هذا الزمن المريب، وأنهم أدنى مني جميعاً. أقسم أنني لا أعرف شيئاً من سوءاتهم، ولا أفكر فيها. أنا لا أعرف شيئاً عن حكاياتهم الحمقاء، لكنني..لكنني – ودموعي تتناثر رغماً عني- أعرف أني قبيح الخلقة وذميم. نعتوني بالأبرص، وذي العين الواحدة. نعتوني بصاحب أسنان القرد، واحتملت إساءاتهم لي. لم أشأ أن أضرب أيّاً منهم. بعيني الواحدة أرى الكون كلّه قبيحاً، أقبح من هيئتي تلك.
ليتني ما جئت. ليتني ما عشت. وأنا أستحضر همومي التي عاهدت أن أنساها، لا أدري لماذا تخور عزيمتي أمام أحزاني! تخونني، فأتذكر كلّ شيء، مثل هذه اللحظة تحديداً: أشعر بشيء ينغّص عليّ كياني، ربما.. ربما من أجله هو، أو ربما لأنه سيخطب الفتاة التي أحببت. جاءني محمد وقبّل رأسي. قطف وردتي وجاءني. قال لي بصوت مجروح:
– سأتزوج يا مهران.
ضحكت فبانت سوءتي. ظهرت أسناني بشكلها المريع. ابتسم. قال وفي عينيه دموع كانت في طريقها نحو الانزلاق:
– سأتزوّج ابنة عمّك مريم.
مريم النور تطلّ من شباك واطئ، تمدّ يديها إليّ، ترفعني، تقبّلني وأنا لا أسمع سوى روحي الهائمة في الملكوت. مريم تحلق في سماواتي. أعتصر نفسي ألماً. ليتني كنت مثلهم. ليتني أملك ذلك الوجه النورانيّ البديع. ليتني مثلهم، لا يتبعني أيٌّ من صبية مخيمنا النزق.
أحدق فيهم الآن يحملونه على أكفّهم، يهللون، يصرخون، والضحك يتعالى نحو الفضاء الرحب، وصوت من شارع خلفي يؤلمني:
– يا مهران يا مجنون.
أبكي. أرتعش خوفاً من حجر قد يأتي من هنا أو هناك. أقف ملتصقاً بحائط غريب. يلحظني الجميع دون أن يبالوا بي أو بالصبية الذين يطاردون روحي. يستمرّون في نزقهم، وأنا أبصر مرآة وجهي من جديد: كل شيء يلازمني حقير، فاسد، تجاعيد تفرض نفسها في وجعي، عين كصقر فقأ الريح بخوفه. أستسلم لروحي. أنفض من رأسي خيالات لن تتحقق، تمرّ أمامي صور باهتة، وصورة مريم تثبت عند التقاء الروح بالروح، تقبّل رأسي، تسألني:
– هل أحضر لك طعاماً؟
أنظر إليها، أواسيني: ليتك كنت هنا يا أمي. ليتك تحضرين من ترابك القدسيّ، تنزعين عني ألمي، تتقدمين لمريم، تسألينها الزواج بي، الاقتران بروحي، لكنك تغادرينني، هكذا، دون أن أفعل لك شيئاً، دون أن أعترض على شيء تقومين به، وأبي يتركني، يطردني، يلهو مع زوجته الغريبة، صاحبة الرائحة القديمة، ربما تذكرينها، تلك التي تبيت في صوامع الرجال، يأخذونها، وهي ترفع قدميها بين السماء والأرض، ثم تلوكها ألسنتهم بعد ذلك. بعد موتك حاول أحدهم قتلها، فأخذها أبي، تزوّجها وتركني. ركلني بقدمه من أجل إخوة صغار جاءوا من آباء مختلفين. طردني حتى لا أدرك حكايته الجديدة.
أهيم على وجهي في طرقات المخيم. يعبث بي الجميع. يركلونني كما فعل أبي. يشتمونني. يصرخون في وجهي، ومحمّد يبتسم لي، يقبّل رأسي، يسألني عن حالي، وأنا لا أعيره جواباً، يحضر لي طعاماً، يأكل معي كأنني إنسان مثله، أحمل الطباع نفسها والملامح، ثم يتركني أذهب حيث أشاء، دون أن يمنعني، لكنّه يطلب مني بصوت منخفض:
– عليك أن تعود إلى هنا، ستبيت كلّ ليلة عندي.
أذهب دون أن أعود. ألتزم المسجد. أنام أسفل جدار متهالك، أؤمل نفسي بأن يسقط فيريحني من عناء ليس له حدود، لكنني أسقط دون أن يسقط هو. ثم أذهب إلى مريم النور، وكأنني إنسان آخر. ابتسم لها بصمت، ثم أهرب إلى الأزقّة المترامية، وهناك أجد الصبية في انتظاري، يلقون حجارتهم، يلقونها دون أن يبالوا بالدماء التي تنزف مني.
اليوم يركلونني في هذه الحفلة الصاخبة، دون أن يبالي أحدٌ بي، حتى محمد، فهو منشغل برفاقه عني، أما مريم فلا تزال بين النسوة ترقص في انتظار عريسها الجميل.
راااااااااااااااائع والف رائع
انت تجسد حقيقة موجودة في مجتمعنا الغزي هناك بعض الاشخاص الذين يكونوا معاقين بدنيا او عقليا ولا يكترث لهم ولا يرغبهم احد ويشتمهم بشتى الالفاظ لذلك من يهتم بمشاعر شخص معاق
انت رااااااائع فوق ما يفوق الخيال
وأنا ذكرتني بقصة لا يحضرني اسمها الآن لغسان كنفاني..أظنها ((المجنون))..
أحب أن تتخلل كتابات الأدباء هؤلاء المنبوذين ..علّهم يجدوا سلواهم في الخيال..
دومت مبدعاً..ياغول هه هه
لا أدري ولكن بشكل ما بطل قصتك ذكرني بأحدب نوتردام 🙂
نوتردام ما شفناه غير من فوق سطح معهد العالم العربي بباريس
المهم أرجو أن تنال القصة رضاك
رائعة بحق،وكأن غبار أزقتها يتناثر من أمامي
دمت لنا مبدعاً
انت الرائع محمود
اعتقد بانك ستصبح قامة أدبية قريباً جدا، فقط ما عليك إلا ان تقرأ لأن الزمن في عجالة من امره ونحن ندور في فلك الأزمنة
بجمال الفكرة ، بالتصوير الرائع ، وبدون الاصفاد .. أراك أسرتنا بالمتابعة خلف قضبانك يا ابو انس ..
رائعة بوجه الحق ، دمت ..
🙂
شكرا صديقي واخي هيثم
وانت الاروع يا هيثم، وستكتب اجمل واروع من ذلك، أنا متأكد من ذلك بإذن الله
راااااااااااااااائع والف رائع
انت تجسد حقيقة موجودة في مجتمعنا الغزي هناك بعض الاشخاص الذين يكونوا معاقين بدنيا او عقليا ولا يكترث لهم ولا يرغبهم احد ويشتمهم بشتى الالفاظ لذلك من يهتم بمشاعر شخص معاق
انت رااااااائع فوق ما يفوق الخيال
أخي ماهر
انا متميز بصحبتك يا صديقي
كن بخير وسلامي لك ولكل من تحب
وكل عام وانت بخير
شكراً هبة
هذا بعض ما عندكم
شكرا آلاء
لك أسلوب متميز متفرّد … يخص الغول لا أحد سواه …
هي لذّة و متعة لامتناهية كلما قرأت لك أستاذي
محبتي و مودتي
الأسلوب الغني بالأفكار، والخيال، والمفردات ..
يسري الغول .. خالص التحية 🙂
جميلة جدا ومؤثرة .. 🙁